أماتَ أبوكَ؟
ضلالٌ أنا لايموتُ أبي..ففي البيتِ منه روائحُ ربّ وذكرى نبي..حملتُكَ في صحو عينيّ حتى..تهيأ للناسِ أني أبي..
أُُشبهكَ حتى بنبرة ِ صوتي ..فكيف ذهبتَ وما زلت بي؟
جرت العادة أن نكتب عنهم بعد الرحيل..لكنني أكتُب عنه وهو لا يزال في انتظار عودتها من السفر ليحكل العين بمرآها..ابنته,وصديقته,خليلةالروح,وحبيبةالقلب..تركت عائلتهاهناك لتحضرعلى أجنحةاللهفةوالبِرّ..كي تراه..لتمسك يده وتتنشق ضوع عطره..لتهمس في أذنه أغاني شداها في الماضي هو في أذنها ليهدهد لها قبل النوم..(سمرة يا أم عيون وساع والتنورة النيلية ..مطرح ضيىء ما بيساع رح حطك بعيني) ..ليسيل بعدهاطوفاناًمن العبرات الخرساء كي لا تجرح قلبه الموجوع..فالمرض القبيح قد تمكن من الجسد الهزيل وأسقمه..!
كان يتحدث معها عن ماض جميل بعيد..ببسمة تنير ما تبقى من ذبول الشفاه..وتُذكّرها بعهود جمعتهما معاً في المنزل العتيق هناك..حيث الصبايا والشباب..بعد كل جملة..لا تطيق دموعه انتظاراً فتتراكض على جنبات الوجه التعب..تغسل عبء التذكر..تلتقطهما بمنديله الأبيض مطرّزة أطرافه بخيوط زرقاء حلوة..تشبه صفاء القلب الذي لم تَشُبهُ شائبة رغم كل هذا الألم..وتسارعُ لتطبع قبلة صادقة على الجبين الشامخ الذي تهواه مرفوعاًكما كان لحدود السماء..!!
ذكّرها يوم كانت طفلة تحاول رسم خطواتها الأولى في المكان..كيف كانت تتسحّبُ قرب قدميه كي يبل لها((اللهاية))بمشروبه المفضل خفية عن أمها,فتبتسم ..بينما تحرك الأم الهواء فوق المنقل المشتعل,تفوح منه روائح ما تشهّى من انواع اللحوم والسمك (طبقه المفضل)!!
تُسقِطُ بخفّة متناهية الماضي العذب على ذاك المساء لعله يرضى ويتناول شيئاً من الطعام ,فشهيته خفّت بالتدريج..تسارعُ لإعدادِ المشهد نفسه برفقة بقية العائلة الكبيرة..ذاك يجهز اللحم ويتبّله..لتخلط هي ((التبولة))بطريقتها المميزة.. وعلى الفور..يستمتع الجّمعُ الكبير بأشهى سفرة((مشاوي))برفقة الأب الحنون..يترأس طاولة الطعام كما اعتاد في كل عمره الماضي..تتعالى ضحكات الفرح لشرفات الجوار..ولأن((للكرم))مطرحاً واسعاً لدى تلك العائلة..يتضاعف عدد الحضور مع من نزل من الجيران ليحتفل بعودة ابنة الجار الكريم من السفر..تُعاودُ المُكوث معه في غُرفته..على سريره العريض..تحاول تجاهُل كميّات المسكنات المتناثرة هنا وهناك تذرّ الرماد في عيونها!!!
تسرد عليه قصة الكتاب الأخير الذي تقرأه بموضوعه الشيق..يبتسم لأنها ورثت عادة القراءة عنه..يسألها ويسألها..يزيد من تساؤلاته عن كل شيء مرّ ويمرّ,لكأنه هو ابنها..ولا تبخل عليه في إيضاح كل ما يريد..تُخبره عن هذا الكتاب..وعن فكرة اللقاء بعد الرحيل ..فقد كانت تسبر ما يدور في أغوار روحه الحزينة..يُناديها بصوته الرقيق لتحضر له حقيبته الخاصة..يُلقي عليها الأرقام السرية .. ويبدأ المشهد بالتشكل..مجموعة صور بالأبيض والأسود تخصّه وحده..ومجموعة تخصّ بقية افراد العائلة..أمسك بيده صورة عتيقة له..كانَ شاباً يزخر بالعافية..وصورة ثانية في مرحلة ((الشباب الثاني))..وسألها رأيها أيّ واحدة تختارها ليُصار الى((تكبيرها))ووَضعُها في إطار جميل,ليتابع كلامه ويسألها..كم يحتاج هذا الأمر من وقت؟!!!
أذهلها الطلب,هدّما تبقى لها من صبر تتكىء عليه..وصَمَتت تختنقُ بدمع يعتصر فؤادها الذي للمرة الأولى أدركَ أن تذوّقَ((طعم اليُتم))بات ممكناً والأحبة مازالوا على قيد الحياة..!!
بثّها توجّسه من الابتعاد عنهم ..فهو لم ((يشبع ))من كونهم حوله بعد اعترف لها بأنه غير خائف من الموت,فهو يؤمن بالله والقَدَر..ويعرف حقّ المعرفة أن الموت حقّ على الجميع..لكنّه
لا يريد الابتعاد عن عائلته..وإن كان ولا بدّ..فليس الآن كونه غير جاهز بعد لاحتمال كهذا..كان يتحدث ويتحدث..يبكي قليلاً في حضنها..ثم يغفو كما الملائكة بسلام لا يشوبه خوف من أي شيء..لتنظُر(هيَ)في عمق عيوني..(أنا)الجالسة قبالة هذا المشهد الذي ذقتُ مرارة طعمه في الماضي..تحملُ رأسه ما بين قلبها وحضنها..تمرّر أصابعها فيما ظلّ من خصلات الشعر التي غزاها البياض في كلّ المفارق..أهنئها على الطاقة الإيجابية العجيبة التي بثّتها في صدره..أعادت إليه رغبته ُفي الطعام,التمتع بالجمع العائلي الدافىء,وحب الحياة لما ظلّ له من عمر مهما طال أو قصُر!!حتى(هيَ)صديقتي ..تعالت على جراحها وأخذت عهداًعلى نفسها أن تتمتع بكل لحظة يمنحها القدر لها مع والدها..تصنع برفقة قلبه الكبير ذكريات لهما فقط..تساعدها في الآتي من وقت حين يخلو المكان منه..!!غادرتُها وقلبي مازال هناك..يصور الجلسة المفعمة بكل أصناف المحبة..وصلتُ منزلي..أمسكتُقلمي..وكتبت في أعلى الصفحة (((ليته لا ينتهي هذا المساء)))!!!!
منقول